فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن كثير:

{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
قرأ السبعة والجمهور بتشديد الياء من: {إياك} وقرأ عمرو بن فايد بتخفيفها مع الكسر وهي قراءة شاذة مردودة؛ لأن إيا ضوء الشمس. وقرأ بعضهم: {أياك} بفتح الهمزة وتشديد الياء، وقرأ بعضهم: {هياك} بالهاء بدل الهمزة، كما قال الشاعر:
فهياك والأمر الذي إن تراحبت ** موارده ضاقت عليك مصادره

و{نستعين} بفتح النون أول الكلمة في قراءة الجميع سوى يحيى بن وثاب والأعمش فإنهما كسراها وهي لغة بني أسد وربيعة وبني تميم وقيس.
العبادة في اللغة من الذلة، يقال: طريق مُعَبّد، وبعير مُعَبّد، أي: مذلل، وفي الشرع: عبارة عما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف.
وقدم المفعول وهو: {إياك} وكرر؛ للاهتمام والحصر، أي: لا نعبد إلا إياك، ولا نتوكل إلا عليك، وهذا هو كمال الطاعة. والدين يرجع كله إلى هذين المعنيين، وهذا كما قال بعض السلف: الفاتحة سر القرآن، وسرها هذه الكلمة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] فالأول تبرؤ من الشرك، والثاني تبرؤ من الحول والقوة، والتفويض إلى الله عز وجل. وهذا المعنى في غير آية من القرآن، كما قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود: 123]: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} [الملك: 29]: {رَبَّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا} [المزمل: 9]، وكذلك هذه الآية الكريمة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
وتحول الكلام من الغيبة إلى المواجهة بكاف الخطاب، وهو مناسبة، لأنه لما أثنى على الله فكأنه اقترب وحضر بين يدي الله تعالى؛ فلهذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
وفي هذا دليل على أن أول السورة خبر من الله تعالى بالثناء على نفسه الكريمة بجميل صفاته الحسنى، وإرشاد لعباده بأن يثنوا عليه بذلك؛ ولهذا لا تصح صلاة من لم يقل ذلك، وهو قادر عليه، كما جاء في الصحيحين، عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب».
وفي صحيح مسلم، من حديث العلاء بن عبد الرحمن، مولى الحُرَقَة، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، إذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] قال: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرحمن الرحيم} [الفاتحة: 3] قال: أثنى علي عبدي، فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] قال الله: مجدني عبدي، وإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6، 7] قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل».
وقال الضحاك، عن ابن عباس: {إياك نعبد} يعني: إياك نوحد ونخاف ونرجو يا ربنا لا غيرك: {وإياك نستعين} على طاعتك وعلى أمورنا كلها.
وقال قتادة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} يأمركم أن تخلصوا له العبادة وأن تستعينوه على أمركم.
وإنما قدم: {إياك نعبد} على: {وإياك نستعين} لأن العبادة له هي المقصودة، والاستعانة وسيلة إليها، والاهتمام والحزم هو أن يقدم ما هو الأهم فالأهم، والله أعلم.
فإن قيل: فما معنى النون في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فإن كانت للجمع فالداعي واحد، وإن كانت للتعظيم فلا تناسب هذا المقام؟ وقد أجيب: بأن المراد من ذلك الإخبار عن جنس العباد والمصلي فرد منهم، ولاسيما إن كان في جماعة أو إمامهم، فأخبر عن نفسه وعن إخوانه المؤمنين بالعبادة التي خلقوا لأجلها، وتوسط لهم بخير، ومنهم من قال: يجوز أن تكون للتعظيم، كأن العبد قيل له: إذا كنت في العبادة فأنت شريف وجاهك عريض فقل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وإذا كنت خارج العبادة فلا تقل: نحن ولا فعلنا، ولو كنت في مائة ألف أو ألف ألف لافتقار الجميع إلى الله عز وجل. ومنهم من قال: ألطف في التواضع من إياك أعبد، لما في الثاني من تعظيمه نفسه من جعله نفسه وحده أهلا لعبادة الله تعالى الذي لا يستطيع أحد أن يعبده حق عبادته، ولا يثني عليه كما يليق به، والعبادة مقام عظيم يشرف به العبد لانتسابه إلى جناب الله تعالى، كما قال بعضهم:
لا تدعني إلا بيا عبدها ** فإنه أشرف أسمائي

وقد سمى الله رسوله بعبده في أشرف مقاماته فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: 1]: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن: 19]: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا} [الإسراء: 1] فسماه عبدًا عند إنزاله عليه وقيامه في الدعوة وإسرائه به، وأرشده إلى القيام بالعبادة في أوقات يضيق صدره من تكذيب المخالفين له، حيث يقول: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 97- 99].
وقد حكى فخر الدين في تفسيره عن بعضهم: أن مقام العبودية أشرف من مقام الرسالة؛ لكون العبادة تصدر من الخلق إلى الحق والرسالة من الحق إلى الخلق؛ قال: ولأن الله متولي مصالح عبده، والرسول متولي مصالح أمته وهذا القول خطأ، والتوجيه أيضًا ضعيف لا حاصل له، ولم يتعرض له فخر الدين بتضعيف ولا رده.
وقال بعض الصوفية: العبادة إما لتحصيل ثواب ورد عقاب؛ قالوا: وهذا ليس بطائل إذ مقصوده تحصيل مقصوده، وإما للتشريف بتكاليف الله تعالى، وهذا- أيضًا- عندهم ضعيف، بل العالي أن يعبد الله لذاته المقدسة الموصوفة بالكمال، قالوا: ولهذا يقول المصلي: أصلي لله، ولو كان لتحصيل الثواب ودرء العذاب لبطلت صلاته. وقد رد ذلك عليهم آخرون وقالوا: كون العبادة لله عز وجل، لا ينافي أن يطلب معها ثوابا، ولا أن يدفع عذابًا، كما قال ذلك الأعرابي: أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ إنما أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «حولها ندندن». اهـ.

.قال أبو السعود:

{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} التفات من الغَيْبة إلى الخطاب، وتلوين للنظم من باب إلى باب، جارٍ على نهج البلاغة في افتنان الكلام، ومسلَكِ البراعة حسبما يقتضي المقام، لما أن التنقلَ من أسلوب إلى أسلوب، أدخلُ في استجلاب النفوسِ واستمالةِ القلوب يقع من كل واحدٍ من التكلم والخطاب والغَيبة إلى كل واحد من الآخَرَيْن، كما في قوله عز وجل: {والله الذي أَرْسَلَ الرياح فَتُثِيرُ سَحَابًا} الآية، وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنتُمْ في الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم} إلى غير ذلك من الالتفاتات الواردةِ في التنزيل لأسرارٍ تقتضيها، ومزايا تستدعيها، ومما استَأثر به هذا المقام الجليلِ من النُكت الرائقةِ الدالةِ على أن تخصيصَ العبادةِ والاستعانة به تعالى لما أُجريَ عليه من النعوت الجليلة التي أوجبت له تعالى أكملَ تميّز، وأتمَّ ظهورٍ، بحيث تبدّل خفاءُ الغَيبة بجلاءِ الحضور، فاستدعى استعمالَ صيغةِ الخطاب، والإيذانَ بأن حقّ التالي بعد ما تأمل فيما سَلَف من تفرّده تعالى بذاته الأقدس، المستوجبِ للعبودية، وامتيازِه بذاته عما سواه بالكلية، واستبدادِه بجلائل الصفات وأحكام الربوبية المميِّزة له عن جميع أفرادِ العالمين، وافتقارِ الكلِّ إليه في الذات والوجودِ ابتداءً وبقاءً، على التفصيل الذي مرَّت إليه الإشارةُ أن يترقى من رتبة البرهان إلى طبقة العيان، وينتقلَ من عالم الغَيبة إلى معالم الشهود، ويلاحظَ نفسَه في حظائر القدْسِ حاضرًا في محاضر الأنس، كأنه واقف لدى مولاه ماثل بين يديه، وهو يدعو بالخضوع والإخبات، ويقرَعُ بالضَّراعة بابَ المناجاة قائلًا: يا من هذه شوؤنُ ذاتهِ وصفاتهِ، نخصُّك بالعبادة والاستعانة، فإن ما سواك كائنًا ما كان بمعزل من استحقاق الوجود، فضلًا عن استحقاق أن يُعبد ويُستعان، ولعل هذا هو السرُ في اختصاص السورةِ الكريمة بوجوب القراءة في كل ركعةٍ من الصلاة التي هي مناجاةُ العبدِ لمولاه ومِنّتُه للتبتل إليه بالكلية.
وإيا ضمير منفصل منصوب، وما يلحَقه من الكاف والياءِ والهاءِ حروف زيدت لتعيين الخطاب، والتكلمُ والغَيبةُ لا محل لها من الإعراب، كالتاء في أنت والكاف في أرأيتَكَ، وما ادعاه الخليلُ من الإضافة محتجًا عليه بما حكاه عن بعض العرب: إذا بلغ الرجلُ الستين فإياه وإيا الشوابِّ، فمما لا يعول عليه. وقيل: هي الضمائر، وإيا دِعامة لها لتُصيرَها منفصلة، وقيل: الضميرُ هو المجموع، وقرئ {إَيَّاك} بالتخفيف وبفتح الهمزة والتشديد، وهياك بقلب الهمزة هاء.
معنى العبادة والعبودية والاستعانة والعبادةُ أقصى غايةِ التذلل والخضوع، ومنه طريق معبّد أي مذَلَّل، والعبوديةُ أدنى منها، وقيل: العبادةُ فعلُ ما يرضَى به الله، والعبوديةُ الرضى بما فعلَ الله تعالى، والاستعانة طلبُ المعونةِ على الوجه الذي مر بيانه، وتقديم المفعول فيهما لما ذُكر من القصر والتخصيص، كما في قوله تعالى: {وَإِيَّاىَ فارهبون} مع ما فيه من التعظيم والاهتمامِ به، قال ابنُ عباس رضي الله عنهما: معناه نعبدك ولا نعبد غيرَك، وتكريرُ الضمير المنصوبِ للتنصيص على تخصيصه تعالى بكل واحدة من العبادة والاستعانة، ولإبراز الاستلذاذِ بالمناجاة والخطاب، وتقديمُ العبادة لِما أنها من مقتَضَيات مدلولِ الاسم الجليل، وإن ساعدته الصفاتُ المُجْراةُ عليه أيضًا، وأما الاستعانة فمن الأحكامِ المبنية على الصفات المذكورة ولأن العبادةَ من حقوق الله تعالى، والاستعانة من حقوق المُستعين، ولأن العبادة واجبة حتمًا، والاستعانة تابعة للمستعان فيه في الوجوب وعدمِه، وقيل: لأن تقديمَ الوسيلة على المسؤول أدعى إلى الإجابة والقبول، هذا على تقدير كونِ إطلاقِ الاستعانة على المفعول فيه ليتناول كلَّ مستعانٍ فيه، كما قالوا، وقد قيل: إنه لما كان المسؤولُ هو المعونةَ في العبادة والتوفيقَ لإقامة مراسِمِهما على ما ينبغي، وهو اللائقُ بشأن التنزيل، والمناسبُ لحال الحامد، فإن استعانتَه مسبوقة بملاحظة فعلٍ من أفعاله، ليستعينَه تعالى في إيقاعه، ومن البيِّن أنه عند استغراقه في ملاحظة شؤونه تعالى، واشتغالِهِ بأداء ما تُوجبه تلك الملاحظةُ من الحمد والثناء، لا يكادُ يخطُر بباله من أفعاله وأحواله إلا الإقبالُ الكليُّ عليه، والتوجهُ التامّ إليه، ولقد فَعل ذلك بتخصيص العبادةِ به تعالى أولًا، وباستدعاء الهدايةِ إلى ما يوصِلُ إليه آخِرًا، فكيف يُتصور أن يَشتغل فيما بينهما بما لا يَعنيه من أمور دنياه أو بما يعمُّها وغيرَها، كأنه قيل: وإياك نستعين في ذلك، فإنّا غيرُ قادرين على أداء حقوقِك من غير إعانةٍ منك، فوجهُ الترتيب حينئذٍ واضح، وفيه من الإشعار بعلوّ رُتبةِ عبادته تعالى وعزّةِ منالِها، وبكونها عند العابدِ أشرفَ المباغي والمقاصدِ وبكونها من مواهبهِ تعالى لا من أعمال نفسِه، ومن الملأَمة لما يعقبُه من الدعاء ما لا يخفى.
وقيل: الواوُ للحال، أي إياك نعبدُ مستعينين بك، وإيثارُ صيغةِ المتكلم مع الغير في الفعلين للإيذان بقصورِ نفسه، وعدمِ لِياقتِه للوقوف في مواقف الكبرياءِ منفردًا، وعَرْضِ العبادة، واستدعاءِ المعونة والهداية مستقلًا، وأن ذلك إنما يُتصور من عصابةٍ هو من جُملتهم، وجماعةٍ هو من زُمرتهم، كما هو ديدَنُ الملوك، أو للإشعار باشتراك سائر الموحِّدين له في الحالة العارضة له، بناءً على تعاضُد الأدلةِ المُلْجئة إلى ذلك، وقرئ {نِسْتعين} بكسر النون على لغة بني تميم. اهـ.